تصدعات القارئ النموذجي

الباحث عن الكمال، متصيد المعاني وقارئ ما بين السطور، ذلك القارئ النهم لا يبرح حتى يجد ضالته ويروي عطشه العلمي والثقافي، وها هو يقع فريسة شراهته الأدبية، لا يرقى له مصطلح جميل ولكن رونق الأصالة تغذي ذائقته الفنية، يعاقب كل من يقرأ الروايات ويحارب أصحاب اللغة البسيطة، أسس المدينة الفاضلة الخاصة بالكتب فقط، وغير مسموح لأي رواية أن تدنس هذا الحرم الإبداعي، اليوم هناك هالة من التعصب نحو نوع دون الآخر، حيث لا تتوقف الحركة الثقافية والعلمية عند حرف أو كلمة محددة، بل تتسع الآفاق لشيء هو أسمى وأعمق، التجديد الروحي وغور التجارب الفنية الأصيلة لا بالكلمة فقط بل بالخيال ورسم الصور الإبداعية دون حدود أو قيود مادية.

 

التصور أن الكتب العلمية هي ملجئ القارئ الوحيد لفهم الحياة وتفسير الأحداث لأمر خاطئ، فالرواية تكون رمزية تقرب الحاضر بالماضي وتفسر الشخصيات وتحلل النفوس المغمورة بداخل الروح البشرية، انعكست الشخصيات الروائية في روح الحياة وإسقاطها عما يجول في زوايا الأنماط البشرية، هو أعمق حدث يمكن ربطه بقوة.

في رواية 1984 لم يكن الخيال هو المحرك الرئيسي للعمل، بل واقع عاشه الكاتب وانغمس فيه، حتى جعله يسكب كل مرارة اللحظات التي عاشها في عمل يوثق بشاعة الأحداث السياسية، بطرح مباشر لما كان يقاسيه وهو ما جعل العمل حيًا بأفكاره لأنه مستمد من واقع، كما ميزها أنها مناسبة لأي حقبة زمانية أو مكانية، تعكس تكرار التاريخ لنفسه عبر شخوص تعيش التفاصيل ذاتها من طموح وأحلام وتعطش للتغيير.

 

أما في المسخ لكافكا لم يتوقف الموضوع عن التحول فقط، بل العمق النفسي لأمراض لا يمكن رؤيتها ولا تفسيرها، بل والأسوأ تظهر تلك العلامات جلية ولا يكترث لها أحد، بل تكون وصمة عار لأقرب الناس لك، تجرد من أبسط حقوقك الإنسانية بأن تُرى كمخلوق حي يستحق الحب والتعاطف.

 

وننتقل للدومينيكان حيث حفلة التيس ليست كأي حفلة، الناجي منها ذو حظ عظيم، ومن سقط فيها فقط أضاع كرامته للأبد، تنتقل الأحداث بين شقي الحاضر والماضي وبوتيرة متتابعة تبدأ بنهاية وتنتهي ببداية، تفاصيل مليئة بالحب والكراهية والشفقة والغدر، تضحيات كثيرة البعض منها يستحق والآخر دُفع ثمنه بالندم والدم.

لا تقوى على فهم التاريخ ودراسته إلا بقراءة أحداثه والنظر فيه عبر أعين الناس البسيطة الهشة، التي ما غالبًا تسقط من كتب التاريخ وتبقى حبيسة الأرقام لا أكثر، بينما نجدها حية بأسماء أصحابها تتنفس وتحكي عن الويلات كما تراها دون تزييف بل تظهر حقيقة الإنسان المجرد من الحياة مثل أنبوب خوٍ إلا من هواء يصدح بالذكريات.

 

تكتشف أن مهمة الأدب أعمق وأدق وأشمل، إذا ما استخدم في مكانه الصحيح وكتب بأيدي أُناس شرفاء، نقلوا العلوم بشغف وسطروا التاريخ بفهم وذكاء، اليوم لا يسعك فهم تاريخ العرب دون العودة لأشعاره وأمجاده وما كان فيه من شد وجذب، فلولا الشعر ما فهمنا كيف عاش أجدادنا ونقلوا لنا هذا الموروث العظيم المتجذر في ثنايا وجداننا، عن الصعاليك ومالهم أثر في تغيير نظرة المجتمع وتحقيق العدل بطرق مثالية، تمثلت بالشرف والمجد، فلا تجد موروث أغنى مما لدينا اليوم يسمو عن أي فكر وفهم.

 

 

الحركة الأدبية حركة قوية ما أن تفهم أبعادها وتدرسها بشكل صحيح تقدر وجودها، فحرية القراءة هي أساس الفكر وأسلوب تربوي إبداعي، يهذب النفس وينقل العلم ويجدد المفاهيم بطرق مختلفة لنصل إلى ما نصبو له، وهو نشر المعرفة وتثقيف المجتمع فلا يبقى أحد دون إدراك وتذوق لأفكار وإن اختلفت عنه، لكنه قادر على مناقشتها ونقدها بطرق علمية متمثلة بالتحليل والاستيعاب، ولا يكون ذلك إلا بالاختلاف لنتفق في نقاط ونفترق بنقاط أخرى وهو من أصل طبيعة الإنسان.

 

 

 

 

 بقلم جمانة هزاع

Next
Next

الكلمة الطيبة